يتميّز الإنسان عن غيره من الكائنات التي أوجدها الله بكونه صاحب الإرادة الحُرّة الانتقائيّة، فلقد خلقه الله ـ دون سائر المخلوقات الأُخرى ـ على مثاله وشبهه. وتمثِّل الحريّة أحد أعمدة هذا التّشابُه، هذه الحريّة التي منحها الله للإنسان بما فيها طريقة استخدامه لها .....
لكن البشر اختلفوا كثيراً حول فهمهم وتطبيقهم لمفهوم الحُريّة وشروطها وكيفيّتها، فما هي الحريّة وكيف يُمكن للإنسان أن يحياها؟!
مفاهيم مغلوطة عن الحُريّة!
يعتقد الكثيرون أنّ الحُّريّة مفهوم مُطلَق، وربّما من المعاني التي قد تتبادر إلى الذّهن ـ كأوّل انطباع ـ عندما نسمع لفظة "الحُريّة"، هي مُفردات وتعبيرات من نوع: الانطلاق، اللا قيود، أن أعمل ما يحلو لي بلا رابط أو ضابط ... إلخ. لكن تُرى هل هذه العبارات تُعبّر بصدق عن المعنى الحقيقيّ للحُريّة؟!. إنّ الإجابة عن سؤال كهذا تتطلّب أمانة مع النّفس وتفكير عميق وناضج، ولو توفّر هذان الشّرطان، أعتقد أنّ الإجابة عن مثل هذا السّؤال لن تكون صعبةً جدّاً. وحتّى يُمكنك التأكُّد من أمر كهذا، إسأل نفسك صديقي، هل يُمكنك أن تتخيّل مُجتمعاً يعمل كلّ من فيه كما يحلو له دون ضابط أو رقيب، كأن لا يذهب الموظّف إلى عمله في الوقت المُحدّد لأنّه حُرّ، وألّا يلتزم النّاس بإرشادات المرور أو بقانون السَّير لأنّهم أحرار، أو التّعدّي على كلّ القوانين التي تُنظّم حياة البشر وعلاقاتهم، بحجّة أنّهم أحرار، لذلك يعمل كلّ واحد منهم ما يحلو له دون حسيب أو رقيب!!. فهل يمكننا أن نتصوّر مُجتمعاً كهذا ؟!! وهل هذه هي الحُريّة في مفهومها الحقيقيّ؟!.
ما هو المفهوم الحقيقيّ للحُريّة؟
الحرّية هي التزامٌ وانضباطٌ وممارسةٌ مسؤولة للأدوار الموضوعة. وحريّتي تنتهي عندما تبدأ حقوق الآخرين. بمعنى أنّ كَوني حُرّاً لا يعني بأيِّ حال من الأحوال أن أُسيء إلى الآخرين أو أن أعتدي على حقوقهم، فهُنا يكون الأمر تعدّياً واستبداداً لا حُريّة. والحُريّة ليست هي الأنانية والتّمحوُر حول الذّات وإشباع الرّغبات كما يحلو لنا، فإنّ أمراً كهذا ربّما يكون أقرب لسلوك الحيوانات لا البشر. فالعلاقات الجنسيّة خارج إطار الزّواج مثلاً لا يُمكن اعتبارها مُمارسة للحُريّة، بل هي أنانيّة ودونيّة.
هل الحريّة أمر داخلي أم خارجي؟
الإنسان الحُرّ بحقّ هو ذلك الإنسان الذي لا تتحكّم فيه شهوة أو عادة أو علاقة ما، أو أيّ شيء من هذا القبيل. وهو ذلك الإنسان الذي يُسيطر على كلّ شيء ولا يُحكم فيه من أيّ أحد أو شيء. هذا ما يوضّحه سليمان الحكيم في أمثال 16: 32 . فنحن لا يُمكننا أن نجد إنساناً مُقيّداً من الدّاخل، ومع ذلك يتمتّع بالحُريّة!، وذلك ببساطة لأنّ داخل هذا الإنسان هو الذي يتحكّم فيه وهو الذي يُسيطر عليه ويُوجّه تصرُّفاته وسلوكه.
الحُريّة والعبوديّة:
يظنُّ بعض النّاس أنّهم أحرار، بينما هم في حقيقة الأمر يَرزَحون تحت عِبء عبوديّة قاسية. وهم في ادّعائهم ذلك إنّما هم مخدوعون أو يخدعون أنفسهم، وكلا الأمرَين مُرّ زُعاف لا يُمكن احتماله أو تداوله. ما أكثر الذين نراهم من حولنا يدّعون أنّهم أحرار، لكنّهم يشعرون في دواخلهم بالعبوديّة. ولعلّ كلّ واحد منّا يحتاج أن يكون أميناً وصادقاً مع نفسه إذ يسأل: هل أنا بحقّ حُرّ أم أنّني أدّعي الحُريّة؟ وهل أرغب حقّاً في أن أكون حُرّاً؟. فإن تسلّط شيء ما أو عادة بعَينها على الإنسان حتّى تمكّنت منه، فإنّها تسلبه إرادته فيكون كالعبد الذّليل. ومع أنّ عبوديّة الإنسان لأخيه الإنسان تُعتبر أمراً قد انتهى وولّت أيّامه، إلاّ أنّ أنواعاً كثيرة أُخرى من العبوديّة مازالت تُسقط الإنسان تحت وطأتها. فإدمان التّدخين أو المُخدّرات أو مُشاهدة الأفلام الجنسيّة مع ما قد يُصاحبها من عادات ذميمة، أمورٌ تُمثّل عُمق العبوديّة وهي ليست من الحُريّة على الإطلاق. قال الرّسول بولس في رسالة رومية 6: 16 .
الحُريّة وقانون الزّرع والحصاد:
كذلك، الحريّة أيضاً يحكمها قانون الزّرع والحصاد، كما هو مذكور في غلاطية 6: 7 . فالإنسان الذي يُدمّر صحّته بإدمانه للتّدخين أو المُخدّرات مثلاً، لَهُوَ غافل أنّه لا بدّ وسيأتي اليوم الذي فيه سيدفع ثمن ذلك من صحّته وعمره. والمشكلة أنّ النّدم لن ينفع وقتها لأنّه من الصّعب أو شبه المستحيل تفادي النّتائج المأساويّة للاستخدام المغلوط للحريّة. فالقانون الطّبيعيّ للزّرع والحصاد لا بدّ أنّ يأخذ مجراه، فياليتنا نتحذّر قبل فوات الأوان ودفع الأثمان!.
العبودية المحمودة!
لعلّك تصوّرت ـ صديقي القارىء ـ عند قراءتك لهذا العنوان الفرعي أنّ خطأً مطبعيّاً ما قد حدث. وربّما يزداد اندهاشك وحيرتك إن أخبرتُك أنّ أمراً كهذا لم يحدث!، فتُبادرني بسؤال وجواب في الوقت نفسه: وهل هناك عبوديّة ما - مهما كانت - يُمكن أن تكون محمودة؟! لست أظن، فالعبوديّة هي العبوديّة في كلّ زمان ومكان. والحقّ معك في ذلك!، لكن هل فكّرت مرّةً في نوعٍ من العبوديّة الاختياريّة، الطّوعيّة، التي يطلبها الإنسان بمحض إرادته وبكامل حُريّته، دون ضغط أو قسر أو إرهاب؟. بل هل فكرّت مرّةً في إنسانٍ يُمكن أن يسعى كي يصبح عبداً لسيّد حُبّاً وليس كرهاً، وهو مُتأكّد أنّ في خضوعه لذلك السيّد مصلحته وسلامه وأمنه؟!. بل أنّ العِشرة معه تحلو وتدوم!!. عزيزي، إنّ العبوديّة لله تعالى خالقنا وسيّدنا الذي يحبّنا، هي الحُريّة نفسها، بينما العبوديّة لأيّ شيء أو شخص سواه بئس العبوديّة تكون.
صديقي، إنّ لله الحقّ أن يمتلكنا لأنّه أبونا وخالقنا وسيّدنا بل وسيّد الأرض كلّها. فنحن كلّنا نحتاج لله تعالى ليقودنا ويُدبّر لنا أحوالنا وهو الأعظم والأقدر على فعل ذلك، وبدونه لن نتمكّن من أن نعيش أحراراً.
لذا، ليتك تأتي لله وتُسلّم كلّ أمورك له، ولا تسمح لأيّ شيء أن يتسلّط عليك إلاّ الله، حتّى تنعم بالحريّة الحقيقيّة.
أدعوك لمشاهدة حلقة من برنامج بيني وبينك عن "الحريّة".