أُقيم مؤخَّراً في إحدى العواصم العربية عرضٌ للأزياء، والملفت للنّظر فيه أنّه خُصِّص لأشكال الحجاب وتنوُّع طُرُق ربطه وارتدائه. وربّما تتساءلين معي أيّتها القارئة العزيزة بدهشة، عرض أزياء للمحجّبات، كيف؟ لماذا؟
كان لا بدّ أن نصل إلى هذه المرحلة بعد أن بدأنا نرى عدد المحجّبات يتصاعد يوميّاً. فقبل عدّة أعوام فقط لم يكن حجاب السّيّدات قضيّةً كبرى ومهمّة لهذه الدّرجة في الشّارع العربي. أمّا الآن فلأجلها تخرج المظاهرات في تركيّا، واحتجاجات في فرنسا، وفنّانات تُعلنَّ ارتداءهنّ الحجاب وترك التّمثيل أو الغناء ... الخ.
لهذا وجب علينا أن ننقاش هذا الموضوع بالعمق، وليس فقط بسطحيّته، فما هي دلائل الحجاب؟ وكيف ينظر النّاس للمحجّبة؟ وكيف تنظر المحجّبة إلى نفسها؟ وأخيراً ما هو رأي الكتاب المقدس بالحجاب؟ وهل في المسيحيّة حجاب؟
لا يمكننا أن نلاحظ هذه الظّواهر دون أن تطفو على السّطح بعض التّساؤلات التي لا يمكن تجاهلها. فهل الحِجاب هو أداة فعّالة لرَدع الشّهوة أم أنّه مُجرّد أداة لكَبْت المُجتمعات؟ وهل هو الدليل الحقيقي على عِفّة المرأة وعلى ترفُّعِها عن الشّهوات والمَلذّات الجّنسيّة؟ أَم أنّه في الغالب نتيجةً للضّغط الاجتماعي الخارجي؟. هل قبوله يعني أنّ المرأة المُحَجّبة أو المُنَقَّبة والمجتمع ينظرون للأنثى نظرةً صحيحةً؟ أم أنّهم يرونها على أنّها مُجرّد "لَحم مستور"؟، بما أنّ أحدهم قال: "إنّ النّساء غير المُحجّبات هُنّ "لَحم مكشوف". راجع تصريحات مُفتي أستراليا: والسّؤال الأهمّ من كل تلك الأسئلة هو:
هل نجحَ الحِجاب في كَبح جِماح غرائز الشّهوانيّين في المُجتمعات التي فُرِض أو طُبّق فيها، أو في الدّوائر المُحيطة بمن قبلوه؟
يظنّ البعض أنّ الحِجاب يخدِم قضيّة ذات بُعدَين. البُعد الأول هو بُعد شخصي، وهو أنّه يساعد المرأة على الحِفاظ على عِفّتها. والبُعد الثّاني هو بُعد اجتماعي، وهو أنّه يقضي على الشّهوة في مَهدِها بضَربة استِباقيّة تمنع ظهورها من الأساس، لأنّ العين تُثار بما تراه وبالتّالي إنْ لم ترَ شيئاً فلن تُستثار. لكنْ نظرة مُتأنّية على هاتين النّقطتين ستكشف لنا أنّ الحِجاب لا يمكنه فعليّاً أنْ يُحقّق أيّاً منهما، لأنّ مفهوم القداسة الحقيقي هو مفهوم روحاني داخلي، ينعكس على السّلوك والمظهر الخارجي بعد أن يتغيّر الدّاخل، وليس مُجرّد أمر خارجي (سِتارة أو قطعة من القماش) يؤثّر في الحالة الدّاخلية لفَرد أو لمجتمع!. إنّ عِفّة المرأة لا يمكن أن تتحقّق بأداة خارجيّة لأنّها أمر داخلي في الأساس. يقول الكتاب المقدّس مخاطِباً النّساء في رسالة بطرس الأولى 3: 2 - 5 . ما نلاحظه هنا هو أنّ عكس التّديُّن الزّائف ليس هو الاستتار أو التّحجّب، وإنّما التّمسّك بطهارة الفكر الدّاخلي وعدم التّنازل عن الزّينة بالكامل بل أن تكون الزّينة مُنضبِطة كزينة النّساء القدّيسات القديمات. فالقضيّة ليست هي مَنع الزّينة أو السّماح بها، وإنّما لُبّ الموضوع هو:
"هل الطّهارة موجودة في القلب أم لا؟": أمّا قضيّة شكل الزّينة أو مدى قِصَر أو طول ملابس المرأة أو الألوان التي ترتديها، فهي قضيّة ثقافيّة بَحتة تختلف باختلاف الزّمان والمكان والثّقافة. فباختلاف البلدان والثّقافات والمُعتقدات تتنوّع أشكال ملابس البشر. إنّ العِفّة الحقيقيّة هي عِفّة القلب. ولا يعني هذا بالطّبع أنّنا مع الانحلال والتّبرّج المُبالَغ فيه في ملابس المرأة. إنّما يعني ببساطة أنّنا نُشجّع على العِفّة الدّاخليّة أولاً، وعلى الالتزام المُتّزن في اللّباس الخارجي بما يتّفق مع الثّقافة دون التّزمُّت أو الانغلاق، اللّذَين لا يعنِيان إلّا أنّ الذّهن هو الذي وُضِعَ عليه الحِجاب وليس البَدَن فقط. أمّا بالنّسبة للبُعد الاجتماعي الذي يزعم أنّ الحِجاب هو الذي يُمكنه كَبح جِماح شهوة الذّكور من خلال استِتار الإناث وراء غطاء، فلا بدّ لكل مراقبٍ مُتأنٍّ لأحوال تلك المجتمعات أن يعرف أنّ هذا لا يؤدّي إلّا إلى زيادة الكَبت، لأنّ الممنوع ببساطة مرغوب. ممّا يؤدي للانفجار ومحاولة إشباع الغريزة بطرق أخرى سريّة مشروعة أو غير مشروعة، ولعلّ الدّليل على هذا هو ما أعلنته إحدى الإحصائيّات المتخصّصة عن أنّ الدّول الإسلاميّة أصبحت من أعلى الدّول نسبةً في الدّخول على المواقع الإباحيّة.
إنّ القداسة الحقيقيّة للرّجُل لا تتحقّق بالكَبت، وإنّما بأن يتدرّب على أن تكون عينه مُنيرة ونظيفة. وهذا يستحيل أن يتحقّق باستخدامِ أدواتٍ لكَبتِ شهواته التي ستظلّ مُشتعلة في داخله. قال السّيّد المسيح في إنجيل متّى 5: 27 - 30 . فالتّدرُّب على الانضباط الذّاتي هو وحده طريق المجتمع نحو الحياة الطّاهرة، فاحتجاب الأنثى لم ولن يمنع الرّجُل يوماً من أن يزني مع المرأة حتّى في قلبه وذهنه، وقداسة الفكر وحدها هي القادرة على أنْ تُعين الرّجُل والمرأة والمجتمع على التّقدّم في حياة القداسة. إنّ القداسة الحقيقيّة نورٌ وليست ظلمةٌ. إنّها مظهرٌ جميلٌ لقلبٍ مُقدّسٍ، وليست غطاءً خارجيّاً لا يُعرَفُ إن كان يُخبّىء نوراً أم ظلمةً تحته. إنّها زينةٌ مُتعقّلةٌ وليست كَبتٌ متعصّبٌ.
إنّ الملابس لا تُقرّب الإنسان إلى الله، لأنّ الله لا ينظر إلى المَلبَس ولا إلى المَظهر الخارجي، فالمَظهر الخارجي قد يخدع البشر لكن لا يستطيع أن يخدع الله. إنّ داخل الإنسان، قلبه وفكره، هما اللّذان يُظهِران مَعدن الإنسان الحقيقي ويَنضحان في سلوكه، فالإناءُ ينضحُ بما فيه. فما هو معدنك يا ترى؟!.